جميع القصص

كنزٌ من ماضي الأندلس: صندوق بني نصر

تأتينا تحف الماضي النادرة بأشكال وأحجام شتّى، تحمل معها عبق الزمن وسحر الفن. ومن أبهى ما وصلنا من عصر بني نصر، هذا الصندوق الأسطواني الذي ربما استُخدم لحفظ العطور أو مستحضرات التجميل، والذي سنطلق عليه من الآن فصاعداً اسم "الصندوق النصري".

المشاركة مع صديق

الأندلس هو الاسم العربي لإسبانيا والبرتغال اللتين خضعتا للحكم الإسلامي من بداية القرن الثامن الميلادي إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي (أواخر القرن الأول الهجري إلى أواخر القرن التاسع الهجري). كانت الأندلس مركزاً للثقافة والإبداع، وساهمت في إنتاج بعضٍ من أروع التقاليد الفنية والفكرية. لقد شهدت شبه الجزيرة الإيبيرية تحولاً كبيراً مع وصول القوات العربية-البربرية عام 711م، وهو الحدث الذي مهّد لقيام حضارة مزدهرة أصبحت حلقة الوصل الحيوية بين أفريقيا وأوروبا والمشرق الإسلامي.

بزوغ الأندلس وذروة مجدها

في القرون التي تلت، ازدهرت في الأندلس مدنٌ مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة وأصبحت مراكز للعلم والفن والتجارة، واشتهرت بمكتباتها وحدائقها وعمارتها وحياة البلاط الملكي فيها. تعايش المسلمون والمسيحيون واليهود وطوائف أخرى متنوعة في بيئةٍ ثقافيةٍ نابضةٍ بالحياة. وقد سمح هذا التعايش بتدفق المعرفة العلمية والأفكار الفلسفية والابتكارات الفنية عبر الحدود الجغرافية.

يُعَدُّ التصميم المهيب للجامع الكبير في قرطبة، وأناقة التفاصيل في قصور بني نصر داخل مجمّع الحمراء في غرناطة، شواهد خالدة على هذا الفصل الاستثنائي في تاريخ الحضارتين الإسلامية والأوروبية.

ترف الحياة اليومية في بلاط بني نصر

txt

هذه القطعة هي من الأمثلة القليلة الموثَّقة للمشغولات المعدنية النصرية.

ومن بين كنوز الأندلس العديدة، تكشف القطع الفاخرة الصغيرة لمحةً شيقة عن الحياة اليومية للملوك ونخبة البلاط. من بين هذه المقتنيات صندوق نصري يعود إلى القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وهو وعاء صغير أسطواني الشكل، كان يُستخدم لحفظ مستحضرات التجميل أو الحُلي أو العطور أو الأدوية.

txt

يُبرز الغطاء تفاصيل الحلقات المزيّنة بزخارف شيفرونية.

تُعد هذه القطعة الأثرية الصغيرة بالغة الأهمية لأنها من الأمثلة القليلة المعروفة للمشغولات المعدنية النصرية، مما يُبرز التميز الفني لتلك الفترة في غرناطة. غُطي سطح هذا الصندوق النحاسي المُطعّم بالفضة، بتصاميم هندسية مُعقدة، مع نجوم ثمانية الرؤوس، وسعف نخيل متشابكة، وزخارف شيفرونية على جزئيه العلوي والسفلي. تعكس هذه الزخارف استخدام حرفيي الأندلس الهندسة الدقيقة والتكرار النمطي لإنتاج إحساس متناغم بالنظام، مما يضفي على هذه المقتنيات جمالاً ورقيّاً فنيّاً.

شعارات الهيبة والذوق الرفيع

txt

كانت الصناديق المعدنية الأسطوانية الفاخرة تُصنع في الورش الملكية للنخبة الحاكمة أو تُقدم كهدايا دبلوماسية.

خلال فترة الحكم الإسلامي للأندلس، حظيت أوعية العطور ومستحضرات التجميل بمكانة بارزة في مناسبات البلاط. إذ كان استخدامها في الغرف الخاصة يعكس الذوق الرفيع ونمط حياة يرتقي بالروتين اليومي إلى آفاقٍ أبعد. صُنعت هذه التحف، مثل الصناديق الأسطوانية، في الورش الملكية، وغالباً ما كانت تُهدى للنخبة أو تُخصص لأصحاب المناصب الرفيعة. تطلب صنع هذه القطع الراقية براعة حرفية استثنائية واستخدام مواد فاخرة، ما يعكس الثراء الاقتصادي والثقافي لبلاط بني نصر. وبعيداً عن وظيفتها العملية، كانت هذه القطع ترمز إلى المكانة والأناقة ورقي ذلك العصر.

أطلال الماضي

txt

صورة مقربة للصندوق تظهر زخارفه.

في عام 1492، ومع انتهاء الحكم الإسلامي في إسبانيا عقب الفتح المسيحي لغرناطة، تم نفي العديد من الأندلسيين قسراً من أراضيهم. ورغم ذلك، استمر الإرث الفني للصناعات الحرفية الإسلامية في الازدهار بالمنطقة، تاركاً تأثيراً عميقاً على الفن الإسباني والأوروبي لقرون عديدة.

يجسّد الصندوق النصري، بتصميمه وشكله الأنيق، روح حضارةٍ ارتبط فيها الفكر والفن والحياة ارتباطاً وثيقاً. ولا يزال يرمز إلى أهمية الأندلس في تاريخ العالم الإسلامي إلى اليوم.

الدكتورة منية شخاب أبو دية، نائب المدير للشؤون المتحفية، متحف الفن الإسلامي

تعرّف على المزيد من القطع الأندلسية

تفضل بزيارة متحف الفن الإسلامي لمشاهدة الصندوق النصري وغيره من التحف الفنية الرائعة التي تُقدم لمحة عن التراث الغني والحيوي للمنطقة.

خطط لزيارتك